نوح عليه السلام
نسبه عليه السلام
هو نوح، بن لامك، بن متوشلخ، بن خنوخ - وهو إدريس - بن يرد، بن مهلاييل، بن قينن، بن أنوش، بن شيث، بن آدم أبي البشر عليه السلام.
كان مولده بعد وفاة آدم، بمائة سنة وست وعشرين سنة فيما ذكره ابن جرير وغيره.
عن زيد بن سلام،قال سمعت أبا سلام، سمعت أبا أمامة،قال
أن رجلاً قال يا رسول الله: أنبي كان آدم؟
قال: نعم مكلم.
قال: فكم كان بينه وبين نوح؟
قال: عشرة قرون.
وفي صحيح البخاري، عن ابن عباس قال: كان بين آدم ونوح، عشرة قرون كلهم على الإسلام
فإن كان المراد بالقرن مائة سنة - كما هو المتبادر عند كثير من الناس - فبينهما ألف سنة .
وإن كان المراد بالقرن، الجيل من الناس، كما في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ}
فقد كان الجيل قبل نوح، يعمرون الدهر الطويلة، فعلى هذا يكون بين آدم ونوح، ألوف من السنين، والله أعلم
بعثته عليه السلام
فنوح عليه السلام، إنما بعثه الله تعالى، لما عبدت الأصنام والطواغيت، وشرع الناس في الضلالة والكفر، فبعثه الله رحمة للعباد، فكان أول رسول، بعث إلى أهل الأرض، كما يقول له أهل الموقف يوم القيامة. وكان قومه يقال لهم بنو راسب، فيما ذكره ابن جبير، وغيره.
وقد ذكر الله قصته، وما كان من قومه، وما أنزل بمن كفر به من العذاب بالطوفان، وكيف أنجاه وأصحاب السفينة في غير ما موضع من كتابه العزيز.
قال تعالى في سورة هود:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ {
قصته عليه السلام
وأما مضمون ما جرى له مع قومه مأخوذاً من الكتاب، والسنة، والآثار فقد ذكرنا عن ابن عباس أنه كان بين آدم، ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام. رواه البخاري.
وذكرنا أن المراد بالقرن: الجيل، أو المدة على ما سلف، ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأهل ذلك الزمان إلى عبادة الأصنام
قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}
فمن هم " ود و يغوث و سواع و يعوق و نسر"؟
قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُـعبد، حتى إذا هلك أولئك، وتنسخ العلم عُبدت.
و قال ابن جرير في (تفسيره):
كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا
قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم
فلما ماتوا وجاء آخرون، دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم.
عن عروة بن الزبير أنه قال: ود، ويغوث، ويعوق، وسواع، ونسر: أولاد آدم. وكان ود أكبرهم، وأبرهم به.
وعن أبي جعفرقال: ذكر وداً رجلاً صالحاً، وكان محبوباً في قومه، فلما مات عكفوا حول قبره في أرض بابل، وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان.
ثم قال: إني أرى جزعكم على هذا الرجل، فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه؟
قالوا: نعم.
فصور لهم مثله.
ووضعوه في ناديهم، وجعلوا يذكرونه، فلما رأى ما بهم من ذكره.
قال: هل لكم أن أجعل في منزل كل واحد منكم تمثالاً مثله ليكون له في بيته فتذكرونه؟
قالوا: نعم.
فمثَّل لكل أهل بيت تمثالاً مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به.
وأدرك أبناؤهم، فجعلوا يرون ما يصنعون به وتناسلوا ودرس أثر ذكرهم إياه، حتى اتخذوه إلهاً يعبدونه من دون الله، أولاد أولادهم، فكان أول ما عبد غير الله (ود) الصنم، الذي سموه وداً.
ومقتضى هذا السياق: أن كل صنم من هذه، عبده طائفة من الناس.
وقد ذكر أنه لما تطاولت العهود والأزمان، جعلوا تلك الصور تماثيل مجسدة ليكون أثبت لهم، ثم عبدت بعد ذلك من دون الله عز وجل.
وقد ثبت في (الصحيحين) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكرت عنده أم سلمة، وأم حبيبة تلك الكنيسة التي رأينها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، قال:
((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل)).
والمقصود أن الفساد لما انتشر في الأرض، وعم البلاد بعبادة الأصنام فيها، بعث الله عبده ورسوله نوحاً عليه السلام، يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما سواه. فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، كما ثبت عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال:
((فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟
فيقول: ربي قد غضب غضباً شديداً، لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربك عز وجل؟
فيقول: ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، نفسي نفسي...)).
فلما بعث الله نوحاً عليه السلام، دعاهم إلى إفراد العبادة لله وحده، لا شريك له، وأن لا يعبدوا معه صنماً، ولا تمثالاً، ولا طاغوتاً، وأن يعترفوا بوحدانيته، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل، الذين هم كلهم من ذريته.
كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَتَهُ هُمُ البَاقِيْن}
وقال فيه، وفي إبراهيم: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}
أي: كل نبي من بعد نوح، فمن ذريته وكذلك إبراهيم.
ولهذا قال نوح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
وقال: { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً}
فذكر أنه دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة في الليل، والنهار، والسر، والإجهار، بالترغيب تارة، والترهيب أخرى. وكل هذا فلم ينجح فيهم بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان، وعبادة الأصنام والأوثان، ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان، وتنقصوه وتنقصوا من آمن به، وتوعدوهم بالرجم والإخراج، ونالوا منهم وبالغوا في أمرهم.
{قَالَ المَلأُ مِنْ قَوْمِهِ} أي: السادة الكبراء منهم:
{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
أي: لست كما تزعمون من أني ضال، بل على الهدى المستقيم، رسول من رب العالمين أي: الذي يقول للشيء كن فيكون.
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
وهذا شأن الرسول أن يكون بليغاً أي فصيحاً ناصحاً، أعلم الناس بالله عز وجل.
وقالوا له فيما قالوا: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}
تعجبوا أن يكون بشراً رسولاً، وتنقصوا بمن اتبعه، ورأوهم أراذلهم.
وقد قيل: إنهم كانوا من أقياد الناس، وهم ضعفاؤهم كما قال هرقل وهم أتباع الرسل، وما ذاك إلا لأنه لا مانع لهم من اتباع الحق.
وقولهم: ((بادي الرأي)) أي: بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر ولا روية، وهذا الذي رموهم به هو عين ما يمدحون بسببه رضي الله عنهم، فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية، ولا فكر، ولا نظر، بل يجب اتباعه والانقياد له متى ظهر.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحاً للصديق:
((ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم))
وقال كفرة قوم نوح له ولمن آمن به: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ}
أي: لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان، ولا مزية علينا
{بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}
وهذا تلطف في الخطاب معهم، وترفق بهم في الدعوة إلى الحق، كما قال تعالى:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
وهذا منه يقول لهم: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}
أي: النبوة والرسالة.
{فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي: فلم تفهموها، ولم تهتدوا إليها.
{أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أي: أنغصبكم بها، ونجبركم عليها.
{وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أي: ليس لي فيكم حيلة، والحالة هذه.
{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ } أي: لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم، ما ينفعكم في دنياكم، وأخراكم، إن أطلب ذلك إلا من الله، الذي ثوابه خير لي، وأبقى مما تعطونني أنتم.
وقوله: { وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً}
كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنه، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك، فأبى عليهم ذلك.
وقال: {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} أي: فأخاف إن طردتهم أن يشكوني إلى الله عز وجل.
ولهذا قال: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ }
{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}
أي: بل أنا عبد رسول، لا أعلم من علم الله، إلا ما أعلمني به، ولا أقدر إلا على ما أقدرني عليه، ولا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله.
{وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} يعني من أتباعه.
{لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
أي: لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم، عند الله يوم القيامة، الله أعلم بهم، وسيجازيهم على ما في نفوسهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وقد تطاول الزمان، والمجادلة بينه وبينهم، كما قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}.
أي: ومع هذه المدة الطويلة، فما آمن به إلا القليل منهم، وكان كل ما انقرض جيل، وصُّوا من بعدهم بعدم الإيمان به، ومحاربته، ومخالفته.
وكان الوالد إذا بلغ ولده، وعقل عنه كلامه، وصَّاه فيما بينه وبينه، أن لا يؤمن بنوح أبداً، ما عاش، ودائماً ما بقي، وكانت سجاياهم تأبى الإيمان، واتباع الحق، ولهذا قال: {وَلَا يَلِدُوْا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً}.
ولهذا قالوا: {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}.
أي: إنما يقدر على ذلك الله عز وجل، فإنه الذي لا يعجزه شيء، ولا يكترثه أمر، بل هو الذي يقول للشيء كن فيكون.
{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
أي: من يرد الله فتنته، فلن يملك أحد هدايته، هو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، وهو العزيز الحكيم العليم، بمن يستحق الهداية، ومن يستحق الغواية. وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
وهذه تعزية لنوح عليه السلام، في قومه أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن أي لا يسوأنك ما جرى؛ فإن النصر قريب والنبأ عجيب.
نسبه عليه السلام
هو نوح، بن لامك، بن متوشلخ، بن خنوخ - وهو إدريس - بن يرد، بن مهلاييل، بن قينن، بن أنوش، بن شيث، بن آدم أبي البشر عليه السلام.
كان مولده بعد وفاة آدم، بمائة سنة وست وعشرين سنة فيما ذكره ابن جرير وغيره.
عن زيد بن سلام،قال سمعت أبا سلام، سمعت أبا أمامة،قال
أن رجلاً قال يا رسول الله: أنبي كان آدم؟
قال: نعم مكلم.
قال: فكم كان بينه وبين نوح؟
قال: عشرة قرون.
وفي صحيح البخاري، عن ابن عباس قال: كان بين آدم ونوح، عشرة قرون كلهم على الإسلام
فإن كان المراد بالقرن مائة سنة - كما هو المتبادر عند كثير من الناس - فبينهما ألف سنة .
وإن كان المراد بالقرن، الجيل من الناس، كما في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ}
فقد كان الجيل قبل نوح، يعمرون الدهر الطويلة، فعلى هذا يكون بين آدم ونوح، ألوف من السنين، والله أعلم
بعثته عليه السلام
فنوح عليه السلام، إنما بعثه الله تعالى، لما عبدت الأصنام والطواغيت، وشرع الناس في الضلالة والكفر، فبعثه الله رحمة للعباد، فكان أول رسول، بعث إلى أهل الأرض، كما يقول له أهل الموقف يوم القيامة. وكان قومه يقال لهم بنو راسب، فيما ذكره ابن جبير، وغيره.
وقد ذكر الله قصته، وما كان من قومه، وما أنزل بمن كفر به من العذاب بالطوفان، وكيف أنجاه وأصحاب السفينة في غير ما موضع من كتابه العزيز.
قال تعالى في سورة هود:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ {
قصته عليه السلام
وأما مضمون ما جرى له مع قومه مأخوذاً من الكتاب، والسنة، والآثار فقد ذكرنا عن ابن عباس أنه كان بين آدم، ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام. رواه البخاري.
وذكرنا أن المراد بالقرن: الجيل، أو المدة على ما سلف، ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأهل ذلك الزمان إلى عبادة الأصنام
قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}
فمن هم " ود و يغوث و سواع و يعوق و نسر"؟
قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُـعبد، حتى إذا هلك أولئك، وتنسخ العلم عُبدت.
و قال ابن جرير في (تفسيره):
كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا
قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم
فلما ماتوا وجاء آخرون، دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم.
عن عروة بن الزبير أنه قال: ود، ويغوث، ويعوق، وسواع، ونسر: أولاد آدم. وكان ود أكبرهم، وأبرهم به.
وعن أبي جعفرقال: ذكر وداً رجلاً صالحاً، وكان محبوباً في قومه، فلما مات عكفوا حول قبره في أرض بابل، وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان.
ثم قال: إني أرى جزعكم على هذا الرجل، فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه؟
قالوا: نعم.
فصور لهم مثله.
ووضعوه في ناديهم، وجعلوا يذكرونه، فلما رأى ما بهم من ذكره.
قال: هل لكم أن أجعل في منزل كل واحد منكم تمثالاً مثله ليكون له في بيته فتذكرونه؟
قالوا: نعم.
فمثَّل لكل أهل بيت تمثالاً مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به.
وأدرك أبناؤهم، فجعلوا يرون ما يصنعون به وتناسلوا ودرس أثر ذكرهم إياه، حتى اتخذوه إلهاً يعبدونه من دون الله، أولاد أولادهم، فكان أول ما عبد غير الله (ود) الصنم، الذي سموه وداً.
ومقتضى هذا السياق: أن كل صنم من هذه، عبده طائفة من الناس.
وقد ذكر أنه لما تطاولت العهود والأزمان، جعلوا تلك الصور تماثيل مجسدة ليكون أثبت لهم، ثم عبدت بعد ذلك من دون الله عز وجل.
وقد ثبت في (الصحيحين) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكرت عنده أم سلمة، وأم حبيبة تلك الكنيسة التي رأينها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، قال:
((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل)).
والمقصود أن الفساد لما انتشر في الأرض، وعم البلاد بعبادة الأصنام فيها، بعث الله عبده ورسوله نوحاً عليه السلام، يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما سواه. فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، كما ثبت عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال:
((فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟
فيقول: ربي قد غضب غضباً شديداً، لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربك عز وجل؟
فيقول: ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، نفسي نفسي...)).
فلما بعث الله نوحاً عليه السلام، دعاهم إلى إفراد العبادة لله وحده، لا شريك له، وأن لا يعبدوا معه صنماً، ولا تمثالاً، ولا طاغوتاً، وأن يعترفوا بوحدانيته، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل، الذين هم كلهم من ذريته.
كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَتَهُ هُمُ البَاقِيْن}
وقال فيه، وفي إبراهيم: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}
أي: كل نبي من بعد نوح، فمن ذريته وكذلك إبراهيم.
ولهذا قال نوح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
وقال: { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً}
فذكر أنه دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة في الليل، والنهار، والسر، والإجهار، بالترغيب تارة، والترهيب أخرى. وكل هذا فلم ينجح فيهم بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان، وعبادة الأصنام والأوثان، ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان، وتنقصوه وتنقصوا من آمن به، وتوعدوهم بالرجم والإخراج، ونالوا منهم وبالغوا في أمرهم.
{قَالَ المَلأُ مِنْ قَوْمِهِ} أي: السادة الكبراء منهم:
{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
أي: لست كما تزعمون من أني ضال، بل على الهدى المستقيم، رسول من رب العالمين أي: الذي يقول للشيء كن فيكون.
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
وهذا شأن الرسول أن يكون بليغاً أي فصيحاً ناصحاً، أعلم الناس بالله عز وجل.
وقالوا له فيما قالوا: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}
تعجبوا أن يكون بشراً رسولاً، وتنقصوا بمن اتبعه، ورأوهم أراذلهم.
وقد قيل: إنهم كانوا من أقياد الناس، وهم ضعفاؤهم كما قال هرقل وهم أتباع الرسل، وما ذاك إلا لأنه لا مانع لهم من اتباع الحق.
وقولهم: ((بادي الرأي)) أي: بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر ولا روية، وهذا الذي رموهم به هو عين ما يمدحون بسببه رضي الله عنهم، فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية، ولا فكر، ولا نظر، بل يجب اتباعه والانقياد له متى ظهر.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحاً للصديق:
((ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم))
وقال كفرة قوم نوح له ولمن آمن به: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ}
أي: لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان، ولا مزية علينا
{بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}
وهذا تلطف في الخطاب معهم، وترفق بهم في الدعوة إلى الحق، كما قال تعالى:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
وهذا منه يقول لهم: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}
أي: النبوة والرسالة.
{فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي: فلم تفهموها، ولم تهتدوا إليها.
{أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أي: أنغصبكم بها، ونجبركم عليها.
{وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أي: ليس لي فيكم حيلة، والحالة هذه.
{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ } أي: لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم، ما ينفعكم في دنياكم، وأخراكم، إن أطلب ذلك إلا من الله، الذي ثوابه خير لي، وأبقى مما تعطونني أنتم.
وقوله: { وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً}
كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنه، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك، فأبى عليهم ذلك.
وقال: {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} أي: فأخاف إن طردتهم أن يشكوني إلى الله عز وجل.
ولهذا قال: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ }
{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}
أي: بل أنا عبد رسول، لا أعلم من علم الله، إلا ما أعلمني به، ولا أقدر إلا على ما أقدرني عليه، ولا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله.
{وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} يعني من أتباعه.
{لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
أي: لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم، عند الله يوم القيامة، الله أعلم بهم، وسيجازيهم على ما في نفوسهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وقد تطاول الزمان، والمجادلة بينه وبينهم، كما قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}.
أي: ومع هذه المدة الطويلة، فما آمن به إلا القليل منهم، وكان كل ما انقرض جيل، وصُّوا من بعدهم بعدم الإيمان به، ومحاربته، ومخالفته.
وكان الوالد إذا بلغ ولده، وعقل عنه كلامه، وصَّاه فيما بينه وبينه، أن لا يؤمن بنوح أبداً، ما عاش، ودائماً ما بقي، وكانت سجاياهم تأبى الإيمان، واتباع الحق، ولهذا قال: {وَلَا يَلِدُوْا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً}.
ولهذا قالوا: {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}.
أي: إنما يقدر على ذلك الله عز وجل، فإنه الذي لا يعجزه شيء، ولا يكترثه أمر، بل هو الذي يقول للشيء كن فيكون.
{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
أي: من يرد الله فتنته، فلن يملك أحد هدايته، هو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، وهو العزيز الحكيم العليم، بمن يستحق الهداية، ومن يستحق الغواية. وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
وهذه تعزية لنوح عليه السلام، في قومه أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن أي لا يسوأنك ما جرى؛ فإن النصر قريب والنبأ عجيب.